ما ازعج الزمن عندما يمسح بأذياله على احداث الماضي. وما ازعجه بعد أن أخذ يركض بسرعة المهرولين نحو التطبيع مع اسرائيل. يجد المرء عندئذ نفسه في عالم غير عالم هذه الدنيا فيغلق فهمه عن الفهم. وهو ما حدث لتحسين علي عندما كان محافظاً على محافظة التأميم في الثلاثينات. تقدم اليه رجل لفتح صيدلية في المدينة. مرت الاشهر ولم يتلق جواباً عنها. فزهق وذهب إلى المحافظ مستفسراً عن مصيرها. قال: يا سيدي مضت كل هذه الاشهر. إما أن تجيزون لي بفتح الصيدلية أو ترفضوها لأفتش عن رزق آخر. نظر المحافظ في وجهه حائراً ثم راح يفتش عن العريضة حتى وجدها في اسفل الاوراق. قرأها ملياً ثم التفت إلى المراجع وقال: «شنو هذي الصيدلية اللي تريدها؟ ما الذي تعملون أو تبيعون فيها؟». اجابه قائلاً، يا سيدي، نعمل فيها الوصفات التي يكتبها الطبيب للمرضى، ونبيع الادوية والعقاقير للناس. «فهز تحسين علي رأسه وقال، «اووو! يا ابني تريد تفتح اجزخانة! اكتب بالعربي يا ولدي اجزخانة حتى نفهم!».
ولا شك ان بعض القراء من ابناء ذلك الجيل سيشعرون بنفس الغرابة والتيهان. ويقولون يا خالد ماذا تقصد بمحافظ محافظة التأميم؟ تكلم بالعربي وأفهمنا! وقبل ان يزدادوا «تيهاناً» اقول أقصد بالعربي ما كان يسمى بمتصرف لواء كركوك. هذا هو المقصود بعربي ما قبل الثورة.
وقعت ايضاً بالمطب نفسه. نقبل أيام هاتفني الاديب والشاعر والمهندس بهاء الدين العزي، ودعاني إلى وليمة عشاء مع صديقي حازم السامرائي، صاحب دار الحكمة للنشر، وعدد من الكتاب العرب. قلت له شكراً على الدعوة، واين ستكون الوليمة، قال في فندق لينزبرو. قلت له فندق ايش؟ ممكن تتهجى لي الكلمة؟ فتهجاها لي وانا اكتب.
عدت إلى السؤال وقلت، واين مكان هذا الفندق؟ راح يصف لي مكانه. انه في هايد بارك كورنر. اذا جئت من نايتس برج فسيكون على يمينك قبل دخول الساحة، واذا جئت من محطة فكتوريا، فتمر بقصر بكنغهام على يسارك ثم تصل قوس النصر فتجد الفندق مقابلاً له.
ومع دقة هذا الوصف فقد بقيت حائراً متردداً. وشعر الاستاذ العزي بحيرتي. فقال يا استاذ خالد فندق لينزبرو هو في مكان مستشفى سان جورج القديم.
هتفت من اعماق قلبي: آه! طبعاً. بس قل لي مستشفى سان جورج وكفى. كيف لا اعرفه؟ ياما عالجوا مصاريني ومعدتي فيه، وفتشوا في مثانتي عن اي اورام سرطانية. ونبشوا حنجرتي وبلاعيمي ونفشوا رقبتي وركبتي وخصيتي. كيف لا اعرف هذا المكان؟ ياما ماتوا فيه من اصدقاء وادباء وشعراء من اصحابي.
نقلوا المستشفى الآن وحولوا البناية إلى فندق خمسة نجوم، بعد ان عرفته باسم مستشفى سان جورج، مستشفى الخمسة أموات. عبد الوهاب البياتي، بلند الحيدري، الرسام كاظم حيدر. الممثل حقي الشبلي، المطرب محمد القبانجي. كلهم مروا بسان جورج هوسبيتال. كيف لا اعرفه؟ بس يا استاذ العزي تكلم معي بالعربي وقل لي نتعشى في سان جورج هوسبيتال حتى يكون عندي معلوم. آه! وما اجملها من مصادفة كريمة. أن آكل لحمة الشاتوبريان في الصالة التي كانوا ينفشون وينبشون ويسيخون فيها كل لحمة في بدني